الأربعاء، 5 مارس 2014

كتاب ذاكرة للنسيان



كتاب: ذاكرة للنسيان
محمود درويش
دار الورّاق للنشر

كتب محمود درويش هذا النص الساخن قبل عشرين عاماً، عن يوم طويل من أيام حصار بيروت عام ١٩٨٢، بلغة متوترة، وبأسلوب يجمع بين السردي والشعري والقصصي والإخباري..

الساعة الثالثة. فجر محمول على النار. كابوس يأتي من البحر. ديوك معدنية. دخان. حديد يعد وليمة الحديد السيد. 
وفجر يندلع في الحواس كلها قبل أن يظهر.
وهدير يطردني من السرير ويرميني في هذا الممر الضيق.
 ولا أريد شيئاً، لا أتمنى شيئاً. ولا أقدر على إدارة أعضائي في هذا الاضطراب الشامل. لا وقت للحيطة، ولا وقت للوقت.
لو أعرف كيف أنظم زحام الموت المُنصبّ، لو أعرف كيف أُحرر الصراخ المحتقن في جسدٍ لم يعد جسدي من فرط ما حاول أن ينجو في تتبع فوضى القذائف.
..
أريد رائحة القهوة. لا أريد غير رائحة القهوة. ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة. رائحة القهوة لأتماسك، لأقف على قدميّ، لأتحول من زاحف إلى كائن، لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميه. لنمضي معاً، أنا وهذا النهار، إلى الشارع بحثاً عن مكانٍ آخر.
..
والقهوة لمن أدمنها مثلي هي مفتاح النهار.
والقهوة لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت.
الفجر، أعني فجري، نقيض الكلام. ورائحة القهوة تتشرّب الأصوات، ولو كانت تحية مثل، "صباح الخير" وتفسد..
من قال إن الماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة؟ للماء لون يتفتح في انفتاح العطش.
للماء لون أصوات العصافير. الدوري بخاصة، العصافير التي لا تكترث بهذه الحرب القادمة من البحر ما دام فضاؤها سالماً

لستم من هُنا.. قيل لهم هُناك.
لستم من هُنا.. قيل لهم هُنا.

قلوع وحصون هي محاولات لحماية اسم لا يثق بخلوده من النسيان. حجارة مضادة للنسيان، حروب عكس النسيان.
لا أحد يريد أن ينسى. وبشكل أدق: لا أحد يريد أن يُنسى.

أتساءل: كيف تكتبُ يدٌ لا تُبدع القهوة؟

أعرف قهوتي، وقهوة أمي، وقهوة أصدقائي. أعرفها من بعيد وأعرف الفوارق بينها. لا قهوة تشبه الأخرى.

.. لأن العطاء وتقاسم الأشياء في السجن هو معيار صدق العطاء..

أين الجريدة؟ الساعة السادسة صباحاً. وأنا في عين الجحيم.
ولكن الخبر هو ما يُقرأ لا ما يُسمع. والواقع، قبل تسجيل الواقع، ليس واقعاً تماماً.

عمّ أبحث؟ أفتح الباب عدة مرات ولا أعثر على الجريدة.
لماذا أطلب الجريدة والبنايات تتساقط من الجهات كلها. ألا تكفيني هذه القراءة؟

أسير وسط الشارع تماماً، ولا يهمني أن أعرف إلى أين أنا سائر، وكأنني في سرنمة.
لا أخرج من شيء ولا أدخل في شيء. ولكن هدير هواجسي المتلاطمة يعلو على هدير طائرات لا أكترث بها.

دلونا علينا لنفرغ ما فينا من حمولة جثث ليست لنا، ومن ثمر فاسد تدلى من لغة ليست لنا، ولنتابع المشي على خطانا لا على خطى قيصر... لص الهوية والطريق...

لم يبقٓ لنا من موت إلا موت الموت...

أمشي لأراني ماشياً، ثابت الخطوة، حُرّاً حتى من نفسي.
قلت: لن أخرج، لأنني لا أعرف إلى أين أخرج. ولأنني لا أعرف إلى أين أخرج، فلن أخرج.

أغاروا من جديد.. من جديد أغاروا؟. ما هذا اليوم؟ هل هو أطول يوم في التاريخ؟ نظرت إلى البناية المقابلة، نظرت إلى مكتبي الصغير نظرة وداع أخي

سماء بيروت قُبة كبيرة من صفيح داكن. الظهيرة المطبقة تنشر رخاوتها في العظام. الأفق لوح من الرمادي الواضح لا يلونه سوى عبث الطائرات. سماء من هيروشيما. في وسعي أن أتناول طبشورة وأكتب على اللوح ما أشاء من أسماء وتعليقات. اجتذبتني الخاطرة: ماذا سأكتب لو صعدت إلى سطح بناية عالية: "لن يمروا"؟ كتبوها. "تموت ليحيا الوطن"؟. كتبوها. هيروشيما؟ كتبوها. طاشت الحروف كلها من ذاكرتي ومن أصابعي. نسيت الأبجدية. لم أتذكر غير حروف خمسة:
ب ي ر و ت
أمرّ الآن في بيروت في ربيع ١٩٨٠، فأرى قفصاً مصنوعاً من ريش جناحيّ. غنائي يثير السخرية. وصرت الغريب الوحيد.
هل أخطأت؟
كثيراً.
اخرج من هنا.
هل انتهت الحرب؟
عاد جميع الغزاة، وولد الوطن من جديد.
إلى أين أعود؟
إلى بلادك.
أين بلادي؟
في الأمة.
وفلسطين؟
ابتلعها السلام.
وصرت الغريب الوحيد. كم أكتم شكواي: لماذا يكون الوطن اللبناني منافياً لفلسطين؟ لماذا يصير الرغيف المصري منافياً لفلسطين؟ ولماذا يصبح السقف السوري منافياً لفلسطين؟ ولماذا تكون فلسطين منافية لفلسطين.
...
كفى، إلى متى يصمدون؟ فإما أن يموتوا وإما أن يخرجوا! إلى متى يخدشون أمسيات العرب بجثث تقطع تسلسل المسلسل الأمريكي؟ إلى متى يحاربون ونحن في عزّ الإجازة والمونديال وتربية الضفادع؟

ولكنني لا أغضب، كما يغضب غيري، من المظاهرات العربية الصاخبة التي خرجت تحتج على حكم منحاز في مباريات كرة القدم، لا لأن كرة القدم تلهب الحماسة أكثر من هذا الصمود الطويل في بيروت، بل لأن المكبوت العربي، المتعدد المصادر، قد عثر على نقطة الانفجار في المتاح العربي.

ولأني أحب كرة القدم، لم أغضب كما غضب غيري من المفارقة. لا مظاهرة واحدة يثيرها حصار بيروت، بينما تثير كرة القدم هذه المظاهرات أثناء حصار بيروت. لم لا؟ إن كرة القدم هي ساحة التعبير التي يوفرها تواطؤ الحاكم والمحكوم في زنزانة الديموقراطية العربية المهددة بخنق سجنائها وسجانيها معاً

ولكن الأمر يختلف في كرة القدم: في وسع الشارع أن يغضب على اللاعبين وعلى المدرب وعلى الحكم الأجنبي. اللاعبون خانوا روح الأمة، والمدرب أساء وضع الخطة. والحكم منحاز. أما الحاكم فهو برئ من الهزيمة، لأنه مشغول بقضايا أكثر جدية. لذلك يرفع الشارع الغاضب صورة الحاكم عالية عالية، وينفذ من تحتها إلى حرية التعبير: يشتم الغرب كما يشاء، ويومئ إلى الداخل كما يشاء. هذا ما تبقى لنا من حرية، فهل نُفرّط بها؟ وهذا ما تبقى لنا من متعة، فلنصفق لما يشير إلى العافية.

عقد مؤتمر قمة عربي لبحث الاجتياح الإسرائيلي، ورداً ساخراً على عدم احتجاج الدولة اللبنانية على هذا الاجتياح واكتفائها بدور الوسيط بين المبعوث الأمريكي وقيادة المقاومة.
فتساءلنا: لماذا يحرق أصحاب "قمة الحضيض" العربي ثومهم وبصلهم وأصابعهم؟ أليس في الوقت متسع للمزيد من الاجتياح وابتلاع الأرض والناس، إذ لم يمض على الغزو شهر واحد فقط..
شهر واحد لا يزيد على لحظة عابرة في تاريخ الحكم العربي الخالد. ولا تكفي لصياغة رد الدول العربية على عجلة من أمرها، والعجلة من الشيطان الرجيم، ليقضي وزراء خارجيتها ساعات صعبة في تونس، يختلفون فيها على تحليل أهداف الاجتياح ومداه: هل هو ضد الفلسطينيين واللبنايين أم ضد سائر العرب؟

...
والقصف يقصف كل شيء، يقصف حتى الخوف.
وقد علمتنا معاشرة الموت أن الموت لا صوت له. إذا سمعت صوت الصاروخ فذلك يعني أنك حيّ، ذلك يعني أن الصاروخ قد أخطأك وأصاب غيرك.

لم أُدرك أنني كنت في حاجة لأن أقولها هنا في بيروت: سجل، أنا عربي. 
هل يقول العربيُّ للعرب أنا عربي؟ يا للزمن الميت، يا للزمن الحي!

وهنا لم أمت. هنا لم أمت. منذ عشر سنين وأنا أعيش هنا. لم أعش في أي مكان عشر سنين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق